قلعة الصبيان
حكاية و عبرة
بقلم : احمد ابو
فرحة
في
قرية من احد قرى المسلمين تدعى "براق" , كان أهل القرية البسطاء يعملون
في الزراعة و التجارة , و كانوا ينحدرون من عائلات مختلفة متناحرة فيما بينها ,
شدتهم العصبية القبلية إلى مقاطعة بعضهم البعض , فلا تلتقي هذه العائلة مع تلك لا في
أفراح و لا في أتراح . و كان هذا الحقد بين الناس متوارثا من جيل إلى جيل . كانت
القرية جميلة خضراء فيها كثير من الموارد الطبيعية . في القرية مدرسة و مسجد و عيادة و
كثير من المرافق التي تكفي هذه القرية أن يحتاجوا المدينة . كانت قرية براق محط أنظار
العصابات الأجنبية , يحلمون بغزوها كي يأخذوا مواردها .
في مدرسة براق مدير و عدة معلمين مخلصين من كافة
العائلات . في احد الأيام , اجتمع المعلمون مع بعضهم و قرروا أن يزرعوا في الجيل
الناشئ من التلاميذ الانتماء للإسلام فقط و أن يتركوا العصبيات الجاهلية التي
ورثوها عن آبائهم . وافق المدير و المعلمون على هذه الفكرة و تولى أبو محمد معلم
التربية الإسلامية متابعة الفكرة تحت إشراف المدير . بدأ المعلمون بتوعية الطلاب و
تخصيص حصص لهم , و بدأ التلاميذ باستيعاب هذا الأمر و زادت محبة التلاميذ لبعضهم
بغض النظر عن العائلة و نجحت فكرة المعلمين و المدير لدرجة كبيرة.
و في
احد الأيام سمع المعلمون أن العصابات الأجنبية تريد غزو القرية , فاستنفروا الأهالي
كي يتصدوا لهم . بعض العائلات وافقت على محاربة العصابات و غالبية العائلات الأخرى
لم توافق على حرب العصابات لان لها مصالح معها , فاستشعر المعلمون الخطر و تباحثوا
الأمر فيما بينهم , فاقترح أبو محمد معلم التربية الإسلامية أن يستفيدوا من جهود
التلاميذ المراهقين في دحر العصابات الأجنبية , فوافق المدير . و فعلا بدأ أبو
محمد باستحثاث النخوة في الطلاب , ولأنهم في بداية عمرهم استلهبتهم الحماسة و
كانوا تواقين لمواجهة العصابات . تم التوجيه من قبل المعلمين و المدير بمتابعة
ميدانية من أبي محمد و عينوا عريفا على هؤلاء الطلاب و هو راشد . شاب خلوق ذكي
ملتزم واع اكبر من سنه .
هجمت
العصابات الأجنبية على قرية براق و أحدثت خرابا و قتلا كثيرا تحت خيانة بعض
العائلات , لكن عائلات أخرى قاتلت بشجاعة و قاتل المعلمون و معهم الطلبة بضراوة و
حققوا قتلا كثير في العدو . و بعد معارك كثيرة , تم تقسيم القرية إلى أقسام , قسم
تحت سيطرة العصابات الأجنبية و قسم تحت سيطرة المعلمين و الأهالي الشرفاء و من
دونهم الطلبة . شعر الطلبة بالعز و الفخار بأنهم شاركوا في المعركة و قتلوا كثيرا
من الأعداء , و زادت أواصر المحبة فيما بينهم . و كان راشد خير عريف لهم و كان
بارا بمعلميه . و استمرت المعارك بين القسم الشريف من القرية و القسم الخائن و
معهم العصابات الأجنبية فترة طويلة . و كانت قرية براق غالبيتها مع القسم الخائن و
الأجانب .
أحد الأيام
, اقترح بعض الطلاب أن يشيدوا قلعة لهم في قرية براق , أعجبت الفكرة غالبية الطلبة
و أعجبت راشد و كل من معه , لكن ظل هاجس أن المعلمين قد يرفضون كبيرا , لذلك بنى
الطلاب قلعة كبيرة في غابة القرية من خشب و ما تيسر لهم من حديد و تعبوا عليها .
كان الطلاب يعتقدون انه لا بد لهم من دور فاعل دائما في الأحداث , و هم الذين
قدموا الشهداء . و بعد أن بنى الطلبة القلعة لتكون نقطة انطلاق لاعمالهم الثورية و مقر اجتماعاتهم . بلغ المعلمين ذلك . فاستاء بعض
المعلمين و استاء المدير من هذا التصرف , لان الأمر كان دون مشورتهم , فقال أبو
محمد أنا أتولى الأمر . ذهب أبو محمد إلى الطلبة و وبخهم على فعل ذلك , و اقنع
الطلبة أبو محمد أن الأمر عادي و انه ملتقى للتجمع و أن في الأمر فائدة و أنهم لن
يتصرفوا أي أمر دون مشورة المعلمين و بالذات أبو محمد لأنهم يحبونه , فهو من علمهم
دينهم . اقتنع المعلم بما قالوا على مضض و ذهب إلى الهيئة التدريسية و قال لهم أن الأمر
غير خطير و أنهم تحت تصرفه .
بدأ
التلاميذ في التدخل بشؤون القرية و بدؤوا يتصرفون على عاتقهم في كثير من الأمور ,
مرة احرقوا سيارة الطبيب لأنه لم يشارك في المعارك و مرة كسروا زجاج الصالون
النسائي و مرة ضربوا امرأة لأنها لا تلبس على الشرع . بلغ المعلمين الأمر و وبخوا
التلاميذ أن لا يكرروا هذه الأفعال لأنها تسيء لهم و للمعلمين . و بدأ الأهالي
يتذمرون من وجود مجموعة اتحادية للتلاميذ المراهقين و زادت الشكاوي عليهم . و قرر
راشد أن يضع لوحة كبيرة مكتوب عليها : قلعة براق .
في
احد المعارك مع العصابات الأجنبية و العائلات الخائنة استشهد راشد عريف الصبيان .
حدثت له جنازة مهيبة في البلد . و بعدها انتخب الصبية إبراهيم صديق راشد . إبراهيم
لم يكن بذكاء راشد لكنه كان متسلطا على بقية التلاميذ . وصل المعلمين أن إبراهيم
هو مسؤول التلاميذ اليوم . كان إبراهيم لا يجب كل المعلمين و لم يكن يكن لهم
الاحترام جميعا . بدأ الطلاب ينكمشون على أنفسهم أكثر فأكثر و بدؤوا يحبون بعضهم أكثر
فأكثر , و بدأت سيطرة المعلمين تتقلص أكثر فأكثر , و بدأ الأهالي يضجون منهم أكثر
فأكثر . قرر إبراهيم تفعيل قلعة براق و قرر أن يكون هو الحاكم الفعلي للبلد تحت إشراف
معلمه أبو محمد . كان أبو محمد يستشعر خطر أن يكون التلاميذ بهذا الشكل , لكن
خيانة كثير من الأهالي و العائلات لم تترك له خيارا إلا أن يراهن على قوة الشباب
المتحمس .
ذات
يوم , وجد الأهالي جثة احد أبناء القرية ملقاة جنب النهر , رأس دون جسد في منظر
مقزز . ظن الأهالي أن العصابات الأجنبية هي من فعلت هذا الأمر , لكنه تبين فيما
بعد أن الطلاب من فعل هذا الأمر بعد أن نشروا بيانا مكتوب عليه : قلعة براق ستطارد
كل الخونة . و كان هذا الشاب المقتول لم يثبت انه فعلا قد تعامل مع العصابات أم كانت مجرد شكوك .
جن
جنون المعلمين من الأمر , و اتفقوا مع المدير أن ينهوا ظاهرة اتحاد التلاميذ , و
قرروا ذلك , لكن التلاميذ رفضوا هذا الأمر , و تحججوا أنها حرب مشتعلة لا يجب
الرجوع إلى المدارس إنما الرباط مع العصابات . بدأ الطلبة بلمز المعلمين و سرد
عيوبهم . و بدؤوا بحملة إسقاط على كثير منهم , هذا لا يصلي جماعة في المسجد , و
هذا ابنته لا تلبس شرعي , و ذاك حليق لحية , و هذا حقود و هذا خرف . و لم يعد سلطة
من المعلمين على الطلبة باستثناء أبو محمد .
زادت
حوادث القتل في القرية موقعة باسم "قلعة براق" , و كان القتل يتم تحت
ذريعة التعاون مع العصابات الأجنبية , منهم من قتل و يستحق القتل و منهم من هو
بريء و منهم من لم يثبت عليه شيء. و أصبح معظم عمل "قلعة براق" ضد الأهالي
بشقيهم الشريف و الخائن , و أصبح الهجوم من شباب القرية المراهقين على العصابات الأجنبية
محدودا . و كان يتذرع الطلبة أن العدو الداخلي اخطر من الخارجي . كان أبو محمد بين
نارين : نار هؤلاء الصبية الأغرار , و نار الأهالي و مجلسهم الخائن . و لكن ظل أبو
محمد مشرفا له كلمته على هؤلاء الصبية بالقدر الذي يستطيع و ظلوا يحترمونه و
يسمعون منه . حاول أبو محمد استحثاث الأهالي لقتال العصابات الأجنبية و أن يشكلوا
فرقة حقيقية من المقاتلين و أن يستلموا الثورة في البلد بدل أن يستلمها هؤلاء الصبية
, لكن أحدا من الأهالي استمع له . و كان بعض الأهالي الشرفاء يقاتلون في مجموعات
لوحدهم بعيدا عن أبو محمد و الصبية الذي يقودهم "شكليا" فقط !
كان
خطر الشباب الأغرار يتعاظم يوما بعد يوم , و كانت الدماء تسيل على أيديهم في
القرية بحق و غير حق و بطريقة وحشية . و كان اسم قلعة براق يستوطن أكثر فأكثر في
نفوس المراهقين , حتى أصبحوا يقاتلون من اجله لا مثل ما علموهم معلموهم لأجل الدين.
و المأساة الكبرى , أن تجربة قلعة براق كانت براقة للقرى المجاورة و البعيدة , و
كانت الناس في تلك القرى تحبهم لأنها تجربة فريدة أن يقود تلاميذ مدرسة الثورة ضد
العدو . و ما كان احد يصدق أن هؤلاء الصبية يقتلون بغير حق في كثير من المرات , فأي
قتيل يقتلوه فهو في خانة الجواسيس , في بلد اشتهر فيها الجواسيس و خانت أكثر
العائلات واجبها نحو قريتها .
و في
احد الأيام , غزت العصابات الأجنبية قرية مجاورة لبراق , قرية "رام" . و
كان أهالي رام بعمومهم يقاتلون العصابات الأجنبية و أثخنوا فيها . قرر إبراهيم
زعيم الصبية أن يهب لنجدة "رام" فذهب و من معه إليها و ساعدوا أهالي تلك
القرية . و تحت ذريعة المساعدة تلك , بنى إبراهيم قلعة أخرى في تلك القرية كبيرة
جدا , و سماها " قلعة براق و رام " , و لأنه صبي فقد التف حوله غالبية
الصبية في تلك البلدة , فقد لبى غرائزهم الصبيانية , و أرادوا أن تكون لهم كلمة .
بعد هذا , تجمع غالبية الصبية من القرى المجاورة مع إبراهيم تحت ذريعة قتال
العصابات الأجنبية , و لكنه حقيقة كان يقودهم لقتل الأهالي بذريعة العمالة . جن
جنون أبو محمد لفعلة إبراهيم و حاول منعه بقوة , لكن إبراهيم اقنع الصبية أن أبو
محمد رجل خرف و لم يعد مثلما كان في السابق , فقد كان شجاعا و أصبح جبانا وأنه قد
غير و قد بدل .و عين إبراهيم "معمر" متحدثا رسميا باسم قلعة براق و رام
(قبر) . و كان معمر ولدا موتورا غير مهذب مشاكسا حقودا سليط اللسان. و استطاع معمر أن يقنع
الطلبة أن أبو محمد ليس له سلطة و انه اليوم غير أبو محمد قديما . و عاث الصبية في
قرية رام كثيرا جدا أكثر مما عاثوا في قرية براق و أصبحت مشكلتهم مشكلة كبيرة , فالأهالي
وقعوا بين مطرقة الصبية و سندان العصابات الأجنبية .
فصدرت
ورقة من أبي محمد و من كل المعلمين و المدراء في القريتين و في القرى المحيطة تفيد
أن هؤلاء الصبية تجمعهم تجمع ضرار لا تجمع خير , و يجب على الأهالي التصدي لهم بكل
ما أوتوا من قوة .
و
بالفعل تم دحر العصابات الأجنبية و تم إنهاء خطر الصبية بعد معارك قوية مع الجهتين
بعد أن توحد الأهالي و نسوا خلافاتهم.و هكذا رأينا كيف انتقل هؤلاء الشباب المتحمس
من فكرة سامية إلى ظاهرة دامية , بسبب غياب المرجعية , و كيف انه لو لم يتم إنهاء
هذه الظاهرة في تلك القريتين لاستشرت هذه الظاهرة في جميع القرى و كانت دماء طاهرة
بريئة سالت من طيش الطائشين و هوس المهووسين . و رأينا أيضا انه في تشرذم الأهالي
ضعف , و كيف انه ماذا توحدوا على حق لا تستطيع أي قوة على الأرض أن تهزمهم , فلو
قاتلوا ببسالة و اتحاد من أول الأمر و نسوا خلافاتهم , لما كان للصبية دور و وجود
و ما كان الاحتلال الأجنبي قادرا على التدخل بشؤونهم .
مقال فى قمة الروعه, أسئل الله أن يرزقك الاخلاص يا استاذ أحمد
ردحذف